الحمدلله وصلى الله وسلم على مصطفاه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فقد أرسل إلي أحد المتصوفة هذه الرسالة : (وأخرج الطبراني في معجميهِ الكبير والصغير عن عثمان بن حُنيف أنّ رجلاً كان يختلف –أي يتردد- إلى عثمان بن عفان، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظرُ في حاجته، فلقيَ عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، فقال: ائتِ الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتُقضى لي، ثم رح حتى أروحَ معك. فانطلق الرجل ففعل ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على طِنفسته –أي سجادته- فقال: ما حاجتك؟ فذكر له حاجته، فقضى له حاجته وقال: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة، ثم خرج من عنده فلقي عثمان بن حُنيف فقال: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفتُ إليّ حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته ولكن شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضريرٌ فشكى إليه ذهاب بصره، فقال: إن شئتَ صبرتَ وإن شئتَ دعوتُ لك، قال: يا رسول الله إنه شقَّ عليَّ ذهابَ بصري وإنه ليسَ لي قائدٌ فقال له: ائتِ الميضأةَ فتوضأ وصلّ ركعتين ثم قل هؤلاء الكلمات، ففعل الرجل ما قال، فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل وقد أبصر كأنه لم يكن بن ضر قط قال الطبراني في كل من "معجميه": والحديث صحيح، والطبراني من عادته أنه لا يصحح حديثًا مع اتساع كتابه المعجم الكبير، ما قال عن حديث أورده ولو كان صحيحًا: الحديث صحيح، إلا عن هذا الحديث، وكذلك أخرجه في الصغير وصححه.
ففيه دليلٌ أن الأعمى توسل بالنبي في غير حضرته بدليل قول عثمان بن حُنيف: "حتى دخل علينا الرجل"، وفيه أن التوسل بالنبي جائز في حالة حياته وبعد مماته فبطل قول ابن تيمية: لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائة شرط.).
مستدلا بها على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذه شبهة ساقطة وحجة بينة البطلان وبيان ذلك أن يقال :
القصة المذكورة أخرجها الطبراني في "المعجم الصغير" "ص١٠٣-١٠٤" وفي "الكبير" "٣/٢/١/١-٢" من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف.... وذكر القصة..
ثم قال الطبراني بعدها :قال الطبراني: لم يرواه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي – واسمه عمير بن يزيد – وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح.
قال الألباني رحمه الله :
لا شك في صحة الحديث، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني، وشبيب هذا متكلم فيه، وخاصة في رواية ابن وهب عنه، لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا، أما اسماعيل فلم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه، بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق، وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه: أنه ثقة في حفظه ضعف، إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة، فقال الذهبي في "الميزان": صدوق يغرب، ذكره ابن عدي في "كامله" فقال..له نسخة عن يونس بن يزيد مستقيمة، حدث عنه ابن وهب بمناكير، قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه صحيح قد كتبته عن ابنه أحمد. قال ابن عدي: كان شبيب لعله يغلط ويهم إذ حدث من حفظه، وأرجو أنه لا يتعمد، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر. يعني يجود".
فهذا الكلام يفيد أن شبيبا هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين:
الأول: ان يكون من رواية ابنه أحمد عنه،
الثاني: أن يكون من رواية شبيب عن يونس، والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد، كما قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" عن أبيه "٢/١/٣٥٩"، فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد، وإذا حدث من حفظه وهو كما قال ابن عدي
إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة، وعدم صلاحية الاحتجاج بها. ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها، فقد أخرج الحديث ابن السني في "عمل اليوم والليلة" "ص٢٠٢" والحاكم "١/٥٢٦" من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفا، فروايته أولى من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.
وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة:
1- ضعف حفظ المتفرد بها،
2- والاختلاف عليه فيها،
3- ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث،
وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟
ثم قال في الرسالة المرسلة وهذا الحديث صححه الطبراني في معجميهِ الصغير والكبير!
يقول الألباني رحمه الله: وفي هذا القول على صغره جهالات:
أولا: أن الطبراني لم يصحح الحديث في "الكبير" بل في "الصغير" فقط، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة
ثانيا: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله وقد سبق: قد روى الحديث شعبة ... والحديث صحيح فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه.
ثالتا: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يعلم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة "اللهم شفعه في وشفعني فيه" لأنه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعيا لذلك الرجل، كما كان داعيا للأعمى، ولما كان هذا منفيا بالنسبة للرجل، لم يذكر هذه الجملة؟ قال شيخ الإسلام "ص١٠٤": "ومعلوم أن الواحد بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال: "اللهم فشفعه في وشفعني فيه" – مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع له – كان هذا كلاما باطلا، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره ان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ولا أن يقول: "فشفعه في"، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: "فشفعه في" لكان كلاما لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو التحريمات، إذ لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه ولا يوافقه ، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته ان يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول.
ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة، ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، ونحو ذلك فراجعه.
ثم قال: وإذا كان في ذلك كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعيا له، ولا شافعا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعا بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته صلى الله عليه وسلم يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت بإتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر: لا يأكل سمينا حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق، وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره، وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته.
هذا، وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به - رضي الله عنه - من رفقه بالناس، وبره بهم، ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه، لأنه ظلم يتنافى مع شمائله - رضي الله عنه - وأرضاه.
إذا تبين ضعف القصة فإن الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل بالذات، بل هو دليل على التوسل المشروع لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ذلك من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها:
أولا: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله: "أدع الله أن يعافيني"، فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلا: اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيرا. ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم الموسل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك". وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة" اخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه.
ثالثا: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: "فادع" فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه صلى الله عليه وسلم دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمرهأن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة}
وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها
طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملا من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.
رابعا: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يقول: "اللهم فشفعه في" اخرجه احمد في المسند وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم في، أي اقبل دعائه في أن ترد علي بصري، والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرا، فيكون أحدهما شفيعا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في "لسان العرب": "الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال بشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه".
فثبت بهذا الوجه أيضا أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بذاته.
خامسا: إن مما علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: "وشفعني فيه" أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم، أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه.
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأعمى مفهمومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحدا منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلا: اللهم شفع في نبيك، وشفعني فيه.
سادسا: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في "دلائل النبوة" كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على ان السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصا إليه تعالى، منيبا إليه قد عوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبدا.
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم، بل ويضمون إليه أحيانا جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس والجن أجمعين! ولم نعلم ولا نظن أحدا قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
إذا تبين للقارىء الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: "اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم" إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة.
*يقال آخيراً أن الصوفية يخلطون بين الاستغاثة والتوسل وقد سبق بيان أن التوسل لا يجوز أما ما يفعلونه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر فمن يقول يا رسول الله أتى بمكفر ولا يجوز فعله هذا
وقد منع النبي صلي الله عليه وسلم الاستغاثة به في حياته فقال: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله " ، رواه الطبراني وصححه الألباني.
فالاستغاثة والدعاء عبادة، والعبادة صرفها لغير الله شرك، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . {يونس: 106-107}.
وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {الأحقاف:5}.
وقال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ. {فاطر: 14ـ 13}..
فهذا بيان لأهم مافي الرسالة وإعراض عن ما فيها من خطأ على شيخ الإسلام والطبراني والله الموفق لا رب سواه وصلى الله على مصطفاه.
عبدالله بن محمد الحساني
أما بعد: فقد أرسل إلي أحد المتصوفة هذه الرسالة : (وأخرج الطبراني في معجميهِ الكبير والصغير عن عثمان بن حُنيف أنّ رجلاً كان يختلف –أي يتردد- إلى عثمان بن عفان، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظرُ في حاجته، فلقيَ عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، فقال: ائتِ الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتُقضى لي، ثم رح حتى أروحَ معك. فانطلق الرجل ففعل ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على طِنفسته –أي سجادته- فقال: ما حاجتك؟ فذكر له حاجته، فقضى له حاجته وقال: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة، ثم خرج من عنده فلقي عثمان بن حُنيف فقال: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفتُ إليّ حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته ولكن شهدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضريرٌ فشكى إليه ذهاب بصره، فقال: إن شئتَ صبرتَ وإن شئتَ دعوتُ لك، قال: يا رسول الله إنه شقَّ عليَّ ذهابَ بصري وإنه ليسَ لي قائدٌ فقال له: ائتِ الميضأةَ فتوضأ وصلّ ركعتين ثم قل هؤلاء الكلمات، ففعل الرجل ما قال، فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل وقد أبصر كأنه لم يكن بن ضر قط قال الطبراني في كل من "معجميه": والحديث صحيح، والطبراني من عادته أنه لا يصحح حديثًا مع اتساع كتابه المعجم الكبير، ما قال عن حديث أورده ولو كان صحيحًا: الحديث صحيح، إلا عن هذا الحديث، وكذلك أخرجه في الصغير وصححه.
ففيه دليلٌ أن الأعمى توسل بالنبي في غير حضرته بدليل قول عثمان بن حُنيف: "حتى دخل علينا الرجل"، وفيه أن التوسل بالنبي جائز في حالة حياته وبعد مماته فبطل قول ابن تيمية: لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائة شرط.).
مستدلا بها على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذه شبهة ساقطة وحجة بينة البطلان وبيان ذلك أن يقال :
القصة المذكورة أخرجها الطبراني في "المعجم الصغير" "ص١٠٣-١٠٤" وفي "الكبير" "٣/٢/١/١-٢" من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف.... وذكر القصة..
ثم قال الطبراني بعدها :قال الطبراني: لم يرواه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي – واسمه عمير بن يزيد – وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح.
قال الألباني رحمه الله :
لا شك في صحة الحديث، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني، وشبيب هذا متكلم فيه، وخاصة في رواية ابن وهب عنه، لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا، أما اسماعيل فلم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه، بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق، وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه: أنه ثقة في حفظه ضعف، إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة، فقال الذهبي في "الميزان": صدوق يغرب، ذكره ابن عدي في "كامله" فقال..له نسخة عن يونس بن يزيد مستقيمة، حدث عنه ابن وهب بمناكير، قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه صحيح قد كتبته عن ابنه أحمد. قال ابن عدي: كان شبيب لعله يغلط ويهم إذ حدث من حفظه، وأرجو أنه لا يتعمد، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر. يعني يجود".
فهذا الكلام يفيد أن شبيبا هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين:
الأول: ان يكون من رواية ابنه أحمد عنه،
الثاني: أن يكون من رواية شبيب عن يونس، والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد، كما قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" عن أبيه "٢/١/٣٥٩"، فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد، وإذا حدث من حفظه وهو كما قال ابن عدي
إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة، وعدم صلاحية الاحتجاج بها. ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها، فقد أخرج الحديث ابن السني في "عمل اليوم والليلة" "ص٢٠٢" والحاكم "١/٥٢٦" من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفا، فروايته أولى من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.
وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة:
1- ضعف حفظ المتفرد بها،
2- والاختلاف عليه فيها،
3- ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث،
وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟
ثم قال في الرسالة المرسلة وهذا الحديث صححه الطبراني في معجميهِ الصغير والكبير!
يقول الألباني رحمه الله: وفي هذا القول على صغره جهالات:
أولا: أن الطبراني لم يصحح الحديث في "الكبير" بل في "الصغير" فقط، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة
ثانيا: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله وقد سبق: قد روى الحديث شعبة ... والحديث صحيح فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه.
ثالتا: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يعلم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة "اللهم شفعه في وشفعني فيه" لأنه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعيا لذلك الرجل، كما كان داعيا للأعمى، ولما كان هذا منفيا بالنسبة للرجل، لم يذكر هذه الجملة؟ قال شيخ الإسلام "ص١٠٤": "ومعلوم أن الواحد بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال: "اللهم فشفعه في وشفعني فيه" – مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع له – كان هذا كلاما باطلا، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره ان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ولا أن يقول: "فشفعه في"، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: "فشفعه في" لكان كلاما لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو التحريمات، إذ لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه ولا يوافقه ، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته ان يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول.
ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة، ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، ونحو ذلك فراجعه.
ثم قال: وإذا كان في ذلك كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعيا له، ولا شافعا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعا بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته صلى الله عليه وسلم يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت بإتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر: لا يأكل سمينا حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق، وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره، وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته.
هذا، وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به - رضي الله عنه - من رفقه بالناس، وبره بهم، ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه، لأنه ظلم يتنافى مع شمائله - رضي الله عنه - وأرضاه.
إذا تبين ضعف القصة فإن الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل بالذات، بل هو دليل على التوسل المشروع لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ذلك من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها:
أولا: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله: "أدع الله أن يعافيني"، فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلا: اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيرا. ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم الموسل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك". وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة" اخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه.
ثالثا: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: "فادع" فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه صلى الله عليه وسلم دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمرهأن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة}
وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها
طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملا من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.
رابعا: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يقول: "اللهم فشفعه في" اخرجه احمد في المسند وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم في، أي اقبل دعائه في أن ترد علي بصري، والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرا، فيكون أحدهما شفيعا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في "لسان العرب": "الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال بشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه".
فثبت بهذا الوجه أيضا أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بذاته.
خامسا: إن مما علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: "وشفعني فيه" أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم، أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه.
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأعمى مفهمومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحدا منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلا: اللهم شفع في نبيك، وشفعني فيه.
سادسا: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في "دلائل النبوة" كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على ان السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصا إليه تعالى، منيبا إليه قد عوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبدا.
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم، بل ويضمون إليه أحيانا جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس والجن أجمعين! ولم نعلم ولا نظن أحدا قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
إذا تبين للقارىء الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: "اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم" إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة.
*يقال آخيراً أن الصوفية يخلطون بين الاستغاثة والتوسل وقد سبق بيان أن التوسل لا يجوز أما ما يفعلونه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر فمن يقول يا رسول الله أتى بمكفر ولا يجوز فعله هذا
وقد منع النبي صلي الله عليه وسلم الاستغاثة به في حياته فقال: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله " ، رواه الطبراني وصححه الألباني.
فالاستغاثة والدعاء عبادة، والعبادة صرفها لغير الله شرك، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . {يونس: 106-107}.
وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {الأحقاف:5}.
وقال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ. {فاطر: 14ـ 13}..
فهذا بيان لأهم مافي الرسالة وإعراض عن ما فيها من خطأ على شيخ الإسلام والطبراني والله الموفق لا رب سواه وصلى الله على مصطفاه.
عبدالله بن محمد الحساني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق