الحمدلله وصلى الله وسلم على مصطفاه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
🔸 أما بعد: فمن الفتن الكبيرة والقواطع العظيمة للسائر إلى الله فتنة المدح والتمادح وركونه للمدح واستئناسه به.
🔸 والمدح إن كان حقاً فقد ذمه الشرع وكرهه وإن كان ليس كذلك فما أبعد المادح والممدوح الراكن لذلك.
🔸 والمرء عليه أن لا يتعجل في المدح والذم إن كان لابد فاعلاً قال ابن مسعود - رضي الله عنه :
" لا تعجلوا بمدح الناس ولا بذمهم ؛ فلعلّ ما يسرُّكم منهم اليوم يَسُوءُكم غدًا ".
شعب الإيمان (٦۱٧٧)
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه :
6060 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ ، حَدَّثَنَاإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ، فَقَالَ : " أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهْرَ الرَّجُلِ ". فالمدح هلاك لصاحبه وقاطع له إن لم يتداركه الله برحمة منه.
🔸ومن خطره أن النفس إن ركنت للمدح جعلت طاعاتها وعباداتها لأجل أن تمدح فتصير عبادته لله غير خالصة وإنما مراده محبة مدح من يمدحه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وكذلك كل من أراد الله لأمر من الأمور، كما حكي أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
قال: (فأخلصت أربعين يوماً فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك لبعض العارفين، فقال: لي: إنك إنما أخلصت للحكمة، لم تخلص لله) .
وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب. "
درء تعارض العقل و النقل (6-66).
🔸 لذلك كله وغيره أمر الشرع بذجر المداحين وأن يحثى في وجوههم التراب، قال مسلم في صحيحه: 3002 ( 68 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، جَمِيعًا عَن ِابْنِ مَهْدِيٍّ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ حَبِيبٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوه ِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ. وهذا المثنى عليه رجل فاضل بل هو من أفضل أهل زمانه وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه كما بينت ذلك الروايات الأخرى، قال أبو داود في السنن :
4804 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ فَأَثْنَى عَلَى عُثْمَانَ فِي وَجْهِهِ، فَأَخَذَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ تُرَابًا فَحَثَا فِي وَجْهِهِ وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا لَقِيتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ ".
🔸والمدح مضر للمدوح غاية الإضرار بل قد يكون سبباً لسقوط الممدوح من أعين الناس ووجه ذلك ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وهذا كما أن من المدح ما يكون ذما وموجبا لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس فإنه يمدح بما ليس فيه فتطالبه النفوس بما مدح به وتظنه عنده فلا تجده كذلك فتنقلب ذما، ولو ترك بغير مدح لم تحصل له هذه المفسدة ويشبه حاله حال من ولي ولاية سيئة، ثم عزل عنها، فإنه تنقص مرتبته عما كان عليه قبل الولاية، وينقص في نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفي هذا قال القائل:
إذا ما وصفت امرأ لامرئ ... فلا تغل في وصفه واقصد
فإنك إن تغل تغل الظنون ... فيه إلى الأمد الأبعد
فينقص من حيث عظمته ... لفضل المغيب عن المشهد "
زاد المعاد (2-313)
🔸 ومن له حال مع الله واستقرت قدمه استوى عنده المدح والذم فلا يفرح بذا ولا يحزن لذا إن لم يكن فيه، قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" اعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها ارتفعت همته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم. فلا يفرح بمدح الناس. ولا يحزن لذمهم. هذا وصف من خرج عن حظ نفسه، وتأهل للفناء في عبودية ربه. وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات. وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه.
والوقوف عند مدح الناس وذمهم علامة انقطاع القلب، وخلوه من الله، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه."
مدارج السالكين (2-9).
🔸 واختم بما حكاه ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-:
وَالْمُرَادُ أَنْ يُخْفِيَ أَحْوَالَهُ عَنِ الْخَلْقِ جُهْدَهُ، كَخُشُوعِهِ وَذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ، لِئَلَّا يَرَاهَا النَّاسُ فَيُعْجِبُهُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَيْهَا، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهَا، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَقَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمْ قَدِ اقْتَطَعَ فِي هَذِهِ الْمَفَازَةِ مِنْ سَالِكٍ؟ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلصَّادِقِ مِنَ التَّحَقُّقِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْفَاقَةِ وَالذُّلِّ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بَعْدُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَدَّعِيَ الشَّرَفَ فِيهِ.
وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ كَثِيرًا: مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:
أَنَا الْمُكَدِّي وَابْنُ الْمُكَدِّي ... وَهَكَذَا كَانَ أَبِي وَجَدِّي
وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي إِلَى الْآنِ أُجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا.
وَبَعَثَ إِلَيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَاعِدَةً فِي التَّفْسِيرِ بِخَطِّهِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا أَبْيَاتٌ بِخَطِّهِ مِنْ نَظْمِهِ:
أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ ... أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي
أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهْيَ ظَالِمَتِي ... وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَاتِي
لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ ... وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ
وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي ... وَلَا شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي
إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا ... إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَا في الايَاتِ
وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا ... وَلَا شَرِيكٌ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِ
وَلَا ظَهِيرَ لَهُ كَيْ يَسْتَعِينَ بِهِ ... كَمَا يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْولَايَاتِ
وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا ... كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي
وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ ... وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي
فَمَنْ بَغَى مَطْلَبًا مِنْ غَيْرِ خَالِقِهِ ... فَهْوَ الظَّلُومُ الْجَهُولُ الْمُشْرِكُ الْعَاتِي
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ ... مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قد يَاتِي
ثُمَّ الصَّلاةُ على المُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مُحَمَّدِ المُصْطَفَى أَزْكَى البَرِيَّاتِ
مدارج السالكين (1/581).
🔸 والله الموفق لا رب سواه وهو وحده الموفق للهدى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبدالله الحساني.
ليلة الأربعاء 8-12-1438
🔸 أما بعد: فمن الفتن الكبيرة والقواطع العظيمة للسائر إلى الله فتنة المدح والتمادح وركونه للمدح واستئناسه به.
🔸 والمدح إن كان حقاً فقد ذمه الشرع وكرهه وإن كان ليس كذلك فما أبعد المادح والممدوح الراكن لذلك.
🔸 والمرء عليه أن لا يتعجل في المدح والذم إن كان لابد فاعلاً قال ابن مسعود - رضي الله عنه :
" لا تعجلوا بمدح الناس ولا بذمهم ؛ فلعلّ ما يسرُّكم منهم اليوم يَسُوءُكم غدًا ".
شعب الإيمان (٦۱٧٧)
قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه :
6060 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ ، حَدَّثَنَاإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ، فَقَالَ : " أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهْرَ الرَّجُلِ ". فالمدح هلاك لصاحبه وقاطع له إن لم يتداركه الله برحمة منه.
🔸ومن خطره أن النفس إن ركنت للمدح جعلت طاعاتها وعباداتها لأجل أن تمدح فتصير عبادته لله غير خالصة وإنما مراده محبة مدح من يمدحه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وكذلك كل من أراد الله لأمر من الأمور، كما حكي أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
قال: (فأخلصت أربعين يوماً فلم يتفجر شيء فذكرت ذلك لبعض العارفين، فقال: لي: إنك إنما أخلصت للحكمة، لم تخلص لله) .
وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب. "
درء تعارض العقل و النقل (6-66).
🔸 لذلك كله وغيره أمر الشرع بذجر المداحين وأن يحثى في وجوههم التراب، قال مسلم في صحيحه: 3002 ( 68 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، جَمِيعًا عَن ِابْنِ مَهْدِيٍّ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ حَبِيبٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَامَ رَجُلٌ يُثْنِي عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ الْمِقْدَادُ يَحْثِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَقَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثِيَ فِي وُجُوه ِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ. وهذا المثنى عليه رجل فاضل بل هو من أفضل أهل زمانه وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه كما بينت ذلك الروايات الأخرى، قال أبو داود في السنن :
4804 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ فَأَثْنَى عَلَى عُثْمَانَ فِي وَجْهِهِ، فَأَخَذَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ تُرَابًا فَحَثَا فِي وَجْهِهِ وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا لَقِيتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ ".
🔸والمدح مضر للمدوح غاية الإضرار بل قد يكون سبباً لسقوط الممدوح من أعين الناس ووجه ذلك ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وهذا كما أن من المدح ما يكون ذما وموجبا لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس فإنه يمدح بما ليس فيه فتطالبه النفوس بما مدح به وتظنه عنده فلا تجده كذلك فتنقلب ذما، ولو ترك بغير مدح لم تحصل له هذه المفسدة ويشبه حاله حال من ولي ولاية سيئة، ثم عزل عنها، فإنه تنقص مرتبته عما كان عليه قبل الولاية، وينقص في نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفي هذا قال القائل:
إذا ما وصفت امرأ لامرئ ... فلا تغل في وصفه واقصد
فإنك إن تغل تغل الظنون ... فيه إلى الأمد الأبعد
فينقص من حيث عظمته ... لفضل المغيب عن المشهد "
زاد المعاد (2-313)
🔸 ومن له حال مع الله واستقرت قدمه استوى عنده المدح والذم فلا يفرح بذا ولا يحزن لذا إن لم يكن فيه، قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" اعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها ارتفعت همته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم. فلا يفرح بمدح الناس. ولا يحزن لذمهم. هذا وصف من خرج عن حظ نفسه، وتأهل للفناء في عبودية ربه. وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات. وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه.
والوقوف عند مدح الناس وذمهم علامة انقطاع القلب، وخلوه من الله، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه."
مدارج السالكين (2-9).
🔸 واختم بما حكاه ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-:
وَالْمُرَادُ أَنْ يُخْفِيَ أَحْوَالَهُ عَنِ الْخَلْقِ جُهْدَهُ، كَخُشُوعِهِ وَذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ، لِئَلَّا يَرَاهَا النَّاسُ فَيُعْجِبُهُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَيْهَا، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهَا، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَقَلْبَهُ وَحَالَهُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمْ قَدِ اقْتَطَعَ فِي هَذِهِ الْمَفَازَةِ مِنْ سَالِكٍ؟ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ لِلصَّادِقِ مِنَ التَّحَقُّقِ بِالْمَسْكَنَةِ وَالْفَاقَةِ وَالذُّلِّ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بَعْدُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَدَّعِيَ الشَّرَفَ فِيهِ.
وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا لَمْ أُشَاهِدْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَقُولُ كَثِيرًا: مَا لِي شَيْءٌ، وَلَا مِنِّي شَيْءٌ، وَلَا فِيَّ شَيْءٌ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:
أَنَا الْمُكَدِّي وَابْنُ الْمُكَدِّي ... وَهَكَذَا كَانَ أَبِي وَجَدِّي
وَكَانَ إِذَا أُثْنِي عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي إِلَى الْآنِ أُجَدِّدُ إِسْلَامِي كُلَّ وَقْتٍ، وَمَا أَسْلَمْتُ بَعْدُ إِسْلَامًا جَيِّدًا.
وَبَعَثَ إِلَيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَاعِدَةً فِي التَّفْسِيرِ بِخَطِّهِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا أَبْيَاتٌ بِخَطِّهِ مِنْ نَظْمِهِ:
أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ ... أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي
أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهْيَ ظَالِمَتِي ... وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَاتِي
لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ ... وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ
وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي ... وَلَا شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي
إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا ... إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَا في الايَاتِ
وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا ... وَلَا شَرِيكٌ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِ
وَلَا ظَهِيرَ لَهُ كَيْ يَسْتَعِينَ بِهِ ... كَمَا يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْولَايَاتِ
وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا ... كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي
وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ ... وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي
فَمَنْ بَغَى مَطْلَبًا مِنْ غَيْرِ خَالِقِهِ ... فَهْوَ الظَّلُومُ الْجَهُولُ الْمُشْرِكُ الْعَاتِي
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ ... مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قد يَاتِي
ثُمَّ الصَّلاةُ على المُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مُحَمَّدِ المُصْطَفَى أَزْكَى البَرِيَّاتِ
مدارج السالكين (1/581).
🔸 والله الموفق لا رب سواه وهو وحده الموفق للهدى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
عبدالله الحساني.
ليلة الأربعاء 8-12-1438