خلق الوفاء:
الحمدلله وصلى الله وسلم على مصطفاه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم:
أما بعد فمن الأخلاق التي عزت خلق الوفاء
عن عمرو بن مهاجر رحمه الله قال:
كان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز:
الوفاء عزيز.
رواه ابن سمعون في الأمالي (95).
وهو خلق نبيل يتناسب مع أصحاب الفضائل وذوي التراكيب الطيبة وماغاب هذا الخلق إلا عند ذوي الأخلاق السافلة الراضين بسفاسف الأخلاق وقديماً قالوا : ما اقبح القطيعة بعد الصلة والجفاء بعد اللطف، والعداوة بعد الود.
والمرء إذا وفق لصحبة فاضل لا يسعه إلّا أن يفي له كما قال الإمام ابن حبان رحمه الله :
إذا وفق المرء لصحبة العاقل فليشد يديه به ولا يزايله على الأحوال كلها.
روضة العقلاء-١٢٣
وصاحب الوفاء جمع الفضائل كلها ونأى بنفسه عن سواه. قال أبومحمد ابن حزم : ( والوفاء مركب من العدل والجود والنجدة لأن الوفي رأى من الجور أن لا يقارض من وثق به أو من أحسن إليه فعدل في ذلك.) الأخلاق و السير.
وهذا الخلق لشرفه هو نادر عزيز منذ قديم الزمان كما تقول العربقديماً في أمثالها : ( رضيت من الوفاء باللقاء) قال أبو هلال العسكري: واللقاء الشيء القليل. اي رضيت بالقليل من الوفاء لأني لا أجد كثيره عند أحد.
جمهرة الأمثال (1/495).
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: ( فقدنا ثلاثة أشياء فلانراها: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الديانة، وحسن الإخاء مع الوفاء) نهاية الأرب (4/156).
والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد هذا الخلق من أخلاقه التي دأب عليها بأبي هو و أمي فالموفق من نظر في حال سيرته وتأسى واتبع وقرأ وانتفع وحاسب نفسه ولذميم الأخلاق رفع.
قال تعالى :﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَوفوا بِالعُقودِ أُحِلَّت لَكُم بَهيمَةُ الأَنعامِ إِلّا ما يُتلى عَلَيكُم غَيرَ مُحِلِّي الصَّيدِ وَأَنتُم حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ ما يُريدُ﴾
[المائدة: ١]
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين, بما يقتضيه الإيمان, بالوفاء بالعقود أي: بإكمالها, وإتمامها, وعدم نقضها ونقصها.
وهذا شامل للعقود, التي بين العبد وبين ربه, من التزام عبوديته, والقيام بها أتم قيام, وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا, والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه, والتي بينه وبين الوالدين, والأقارب, ببرهم, وصلتهم, وعدم قطيعتهم. """والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر, واليسر والعسر,""" والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات, كالبيع, والإجارة, ونحوهما, وعقود التبرعات, كالهبة ونحوها, والقيام بحقوق المسلمين, التي عقدها الله, بينهم في قوله: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " بل التناصر على الحق, والتعاون عليه, والتآلف بين المسلمين, وعدم التقاطع.
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه, فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها.
واكتفي بذكر شيء يسير من وفاء النبي صلى الله عليه وسلم وعليها يقاس فمن ذلك: ما جاء عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر : " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له " . رواه البخاري
وايضاً: ماجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت :جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنت قالت أنا جثامة المزنية . فقال بل أنت حسانة المزنية كيف أنتم كيف حالكم كيف كنتم بعدنا . قالت بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله فلما خرجت قلت يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال فقال إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان .
وما صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا أتي بالشيء يقول اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة خديجة اذهبوا إلى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة ).
وماذكره بعض علماء الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء وصلى به الجمعة ثم انتقل لمسجده فكان يذهب له كل سبت وفاء منه عليه الصلاة والسلام
عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ما شيا وراكبا فيصلي فيه ركعتين. متفق عليه
فهذا أمر يطول حصره ويكفي ماذكر من هديه صلى الله عليه وسلم.
حـقٌ عليَّ أزوركـم وأزوركـم
أبدًا ولو سحبًا على الوجناتِ
أمّـا الفــؤاد فعامـر بودادكـم
متلهـفٌ مـن شــدة الزفــراتِ
وقد ذكر أهل العلم حقوقاً لابد منها مع من عقدت معه مودة وهي فرض لازم فاجعلها نصب عينيك و هي :
1-حَقٌّ في المال بالإِعانة والمواساة.
2-حَقٌّ في النَّفْس بقضاء الحاجات.
3-حَقٌّ في اللِّسان بالنُّطْق تارةً، والسُّكوت أُخرى
4-حَقٌّ في النُّطق بالمَحابِّ.
5-حَقُّ الإِغضاء عن الهَفَوات، والعَفْو عن الزَّلّات.
6-حَقٌّ في الدُّعاءِ له حَيّاً ومَيِّتاً.
7-حَقُّ الثَّباتِ على اخلاصِ المَودَّة له، والوَفاء معه حَيّاً ومَيِّتاً.
8-حَقُّ تَرْكِ التَّكلُّف معه،وتَكليفِه ما يَشُقُّ عليه.
والاخوة في الله لها حقوق كما لاخوة الرحم حقوق، وفي نقد النثر ص 4:
الإخاء الصادق أقرب من النسب الشابك.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : (القرابة الدينية أعظم من القرابة الطينية، والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان) .
منهاج السنة (٧٨/٧) .
وفي الختام اذا لم تستطع نفسك هذا الخلق فكف شرّك عن أخيك ولا تحسده( فإن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كل من احسن اليهم اذا رأوه في أعلى من أحوالهم)
وكن كابن حزم هنا إذ يقول :
ولعمري ما سَمَحَتْ نفسي قط في الفكرة في إضرار من بيني وبينه أقل ذمام، وإن عظُمت جريرته!
رسائله 210/1
وقال ايضاً رحمه الله تعالى : " وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له وهذا فرض لازم وحق واجب على المحب والمحبوب ، لايحول عنه إلا خبيث المحتد لاخلاق له ولاخير عنده. " الطوق 194
والله الموفق لا رب سواه.
عبد الله الحساني.
الاثنين 14 جمادى الأولى 1437
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق