الثلاثاء، 28 فبراير 2017

﴿َ يَتلونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهَِ﴾

 الحمد لله وصلى الله وسلم على مصطفاه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
🔸 أما بعد: ففيما يلي بيان لأهمية الاعتناء بكتاب الله وحث أهل الإيمان أن يعتنوا به تلاوة وتدبراً وحفظاً وفهماً،  وأن ذلك سبيل من رضي الله عنهم من الصحابة ومن بعدهم وتحذير المسلم من هجر كلام الله والانشغال بغيره ، والقرآن أصل كل خير وسبب كل هدى وفيه خيري الدنيا والآخرة قال  فروة بن نوفل الأشجعي : كنت جارا لخباب ، فخرجت يوما معه إلى المسجد ، وهو آخذ بيدي ، فقال : " تقرب إلى الله بما استطعت ،
فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه"
السير ( ٢٨٤ / ١١).
 قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } .
وقال : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
 وقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } .
وقال ﴿إِنَّ هذَا القُرآنَ يَهدي لِلَّتي هِيَ أَقوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤمِنينَ الَّذينَ يَعمَلونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا كَبيرًا﴾.
🔸وحقيقٌ على المسلم أن يقف مع نفسه وينظر في حاله هل هو مقصر مع القرآن أم أنه يوليه اهتمامه ويجعله حاديه وسميره في سيره إلى الله تعالى ومن لايبالي بتقصيره فمانصح لنفسه.  أخرج البيهقيّ في الشعب (٨٦٧) :
عَنْ ابْنُ الْمُبَارَكِ رحمه الله قال :
"مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ تَقْصِيرًا، ثُمَّ لَا يُبَالِي، وَلَا يَحْزَنُ عَلَيْهِ ".  وأعظم التقصير مايكون مع كتاب الله.
 قال المعلمي اليماني رحمه الله :
"وإنه لعارٌ وشنارٌ وفضيحة الأبد أن يكون كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه مخاطباً لنا خطاباً يتناول كل واحد منا،  موجوداً بين أيدينا،  ميسّرةٌ الطريق إلى فهمه والعمل به،  ثم نُعرض عنه ونهجره!  إنا لله وإنا إليه راجعون"
مجموع آثاره (4/112).
🔸وقد كان الانشغال بالقرآن والوصاية به هدي السلف رحمهم الله قال التابعي الحسن البصري :
" كانوا (يعني الصحابة وكبار التابعين) يُرَغِّبِون في تعليم القرآن  والفرائض  والمناسك "
  مسند الدارمي (٢٨٩١)
وقال إمام أهل الشام الأوزاعي :
"بلغنا أن خمساً كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان :
اتباع السنة وتلاوة القرآن ولزوم الجماعة وعمارة المساجد والجهاد في سبيل الله "
 المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان (٢ /٣٩١).
قال ابن مسعود رضي الله عنه :
"عليكم بالقرآن فإنه حبل الله عزوجل"
فضائل القرآن لأبي عبيد ( 35)
قال أبو عبيد : أراد قوله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا }.
وكان أيضاً يقول أي (عبد الله بن مسعود رضي الله عنه) :
"عليكم بالشفائين :
القرآن , والعسل وكان يقول : العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور"
مصنف ابن أبي شيبة (30642).
وقال الإمام أحمد  في الزهد (١١٢٦):
"حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ:
شَيَّعْنَا جُنْدُبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - فَلَمَّا بَلَغْنَا حِصْنَ الْمُكَاتِبِ قُلْنَا لَهُ:
أَوْصِنَا !
قَالَ: " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نُورُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَهُدَى النَّهَارِ فَاعْمَلُوا بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَفَاقَةٍ  ".
🔸 لذلك كان من الأمور المقررة عندهم أن المسلم لابد له من حزب وورد يومي يقرأه من كتاب الله ولا يفرط فيه مهما حصل من شاغل وطرأ من صارف فعن أوس بن حذيفة – رضي الله عنه - قال:" قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - في وفد ثقيف، فنزلت الأحلافُ على المغيرة بن شعبة، وأنزلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني مالك في قبّة له، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - كل ليلةٍ يأتينا بعد العشاء يحدّثنا قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدثنا ما لقيَ من قومه قريش، ثم يقول: لا سواءٌ، وكنّا مستضعفين مستذلين بمكة، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجالُ الحربِ بيننا وبينهم، نُدال عليهم ويدالون علينا؛ فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا: لقد أبطأتَ عنّا الليلة! قال : "إنّه طرأ عليَّ حزبي من القرآن، فكرهت أن أجيء حتى أتمّه" قال أوس: سألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف تحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاثٌ، وخمسٌ، وسبعٌ، وتسعٌ، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزبُ المفصَّل وحده."
 أخرجه أحمد في المسند، وأبو داود، وابن ماجه.  فهدي الصحابة رضي الله عنهم أنهم يختمون في سبع أيام وبيان ذلك كالآتي :(اليوم الأول : 3 سور هي: البقرة وآل عمران والنساء.
اليوم الثاني : 5 سور هي: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة.
 اليوم الثالث : 7 سور هي: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
 اليوم الرابع : 9 سور هي: الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان
 اليوم الخامس : 11 سورة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس.
 اليوم السادس : 13 سورة: الصافات وص والزمر وغافر وفصّلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف ومحمد والفتح والحجرات.
 اليوم السابع : 65 سورة وهي المفصّل: من سورة ق إلى آخر المصحف) .
وقد صح الأمر بختمه في سبع
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ ) قُلْتُ : إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً ... حَتَّى قَالَ ( فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ) .
رواه البخاري ( 4767 ) ومسلم ( 1159 ) .
وجاء الأمر كذلك أنه لا يختم في أقل من ثلاث فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ) . رواه الترمذي ( 2949 ) وأبو داود ( 1390 ) وصححه الألباني.
  وعلى ذلك كان هدي الصحابة رضي الله عنهم كذلك فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " اقرؤوا القرآن في سبع ، ولا تقرؤوه في أقل من ثلاث " .
رواه سعيد بن منصور في " سننه "
🔸 وبين الثلاث والثلاثين يوماً كان هديهم واليوم بعض المسلمين يمر عليهم الأسبوع والأسبوعان بل الشهر والشهران والثلاث ولا يختمون القرآن بل قد يوجد بين المنشغلين بالعلم من حاله كذلكفإلى الله المشتكى وهو المستعان.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :"إني لأقرأ حزبي ( يعني من القرآن ) أو عامة حزبي ، وأنا مضطجعة على فراشي "
  مصنف ابن أبي شيبة (٢ / ٣٨٤).
وقال ابن الفرضي أخبرني العباس بن أصبغ ، قال : حدثني محمد بن قاسم بن سيَّار  ، قال : قلتُ لأبي : يا أبتِ ، أوصني . فقال : أوصيك بكتاب الله ، فلا تنس حظك منه ، واقرأ منه كلَّ يومٍ جُزءًا ، واجعل ذلك عليك واجباً ."
تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي   (1/457)
 فعلى المسلم أن يكثر من تلاوته لكلام ربه وأن يكن هجيراه تلاوة القرآن ‏قال ابن رجب رحمه الله:
‏( ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى من النوافل كثرة تلاوة القرآن وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم)
‏جامع العلوم والحكم (342).
🔸 ومما ينبغي أن يُنتبه له أن المراد من القرآن فهمه وتدبره لا مجرد تلاوته بلا تدبر ولا تعقل ولا فهم قال تعالى :﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ وَلَو كانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدوا فيهِ اختِلافًا كَثيرًا﴾ [النساء: ٨٢]
 وقال ﴿كِتابٌ أَنزَلناهُ إِلَيكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّروا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلبابِ }[ص: ٢٩]
وقال :﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَم عَلى قُلوبٍ أَقفالُها﴾ [محمد: ٢٤]
‏قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من أراد العلم فَلْيُثَوِّرِ القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين"
[مسند مسدد/المطالب3100] يثور:يتفكر في معانيه وتفسيره
قال ابن تيمية رحمه الله :
"فإن الْإِنْسَانَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَهُ،  كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ لَهُ مِنْ الْمَعَاصِي ."
 مجموع الفتاوى (٢٠-١٢٣)
قال ابن القيم  رحمه الله :
"ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبُّر القرآن"
مدارج السالكين ( ١/٤٥١)
وقال - رحمه الله - :
" فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة عليه ، بل أنزل ليتدبر ويعقل ويهدى به علما وعملا ، ويبصر من العمى ، ويرشد من الغي ، ويعلم من الجهل ، ويشفي من الغي ، ويهدي إلى صراط مستقيم ."
الصواعق المرسلة ( ١\٣١٦)
قال أيضاً أي (ابن القيم) رحمه الله :
" التِّلَاوَة الْحَقِيقِيَّة وَهِي تِلَاوَة الْمَعْنىٰ ، واتباعه تَصْدِيقًا بِخَبَرِهِ ، وائتماراً بأَمْره ، وانتهاءً بنهيه ، وائماما بِهِ ، حَيْثُ مَا قادك انقدت مَعَه ، فتلاوة الْقُرْآن تتَنَاوَل تِلَاوَة لَفظه وَمَعْنَاهُ ، وتلاوة الْمَعْنىٰ أشرف من مُجَرّد تِلَاوَة اللَّفْظ ، وَأَهْلهَا هم أهل الْقُرْآن الَّذين لَهُم الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا والاخرة فَإِنَّهُم اهل تِلَاوَة ومتابعة حَقًا " .
مفتاح دار السعادة ( ٢٠٣/١ )
  وقال البشير الإبراهيمي رحمه الله :
"سر القرآن ليس في هذا الحفظ الجاف الذي نحفظه ، ولا في هذه التلاوة الشلاء التي نتلوها ، وليس من المقاصد التي أُنزل لتحقيقها تلاوته على الأموات ، ولا اتخاذه مكسبة ، والاستشفاء به من الأمراض الجسمانية .
وإنما السر كل السر في تدبره وفهمه ، وفي اتباعه والتخلق بأخلاقه . ومن آياته ( كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) ، ومن آياته ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ) ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ) و ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) هذه هي الطريقة الواحدة التي اتبعها المسلمون الأولون فسعدوا باتباعها والاستقامة عليها ، وهذا هو الإسلام متجلياً في آيات القرآن  . " آثاره (1/ 160-161)
فالله أرجو أن ينفع بهذه الكلمات وأن يوفق الجميع لتلاوة كتابه والعمل به وتدبره والله الموفق لا رب سواه.
عبدالله بن محمد  الحساني 
الجمعة 15/4/1438

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق